في مشهد اعتاده الليبيون، يعود إلى الواجهة من جديد إعلان شركة البريقة لتسويق النفط عن صدور القوائم الثامنة للمواطنين المستحقين لتسلم أسطوانات غاز الطهي في منطقة طرابلس. هذا الخبر، الذي يبدو روتينياً للوهلة الأولى، هو في الحقيقة شهادة حية على واقع معيشي معقد، يحكي قصة المواطن الذي لا يزال يتنقل بين طوابير الأوراق ودهاليز الإجراءات للحصول على أبسط مقومات الحياة. الإعلان، الذي جاء مؤكداً على أن التسليم سيتم وفق الإجراءات المعتمدة وبالاعتماد على بيانات المنظومة الإلكترونية، يفتح الباب أمام تساؤلات جوهرية عن كفاءة هذه المنظومة، وعن مدى توافقها مع الهم اليومي للمواطن البسيط.
قوائم توزيع اسطوانات الغاز الزاوية
ودعت الشركة المواطنين إلى الاطلاع على القوائم المنشورة عبر الرابط المخصص والبحث عن أسمائهم أو أرقام الحجز، مشيرة إلى أن الاستلام يتطلب إحضار المستندات التالية:
وأكدت الشركة أن هذه الخطوة تأتي ضمن جهودها المستمرة لضمان وصول أسطوانات الغاز إلى المواطنين بشكل منظم وعادل، مع التشديد على ضرورة الالتزام بالإجراءات لضمان سرعة إنجاز عملية التسليم.
أضغط هنا للدخول الى قوائم طرابلس الجديدة
1. بين يدي الإعلان: قراءة في التفاصيل:
يأتي إعلان شركة البريقة واضحاً في شكله، مُحدداً في متطلباته. فهو لا يقتصر على الإعلان عن صدور القوائم فحسب، بل يضع المواطن أمام حزمة من المتطلبات التي تشكل، مجتمعة، اختباراً للجهد والوقت:
الرابط الإلكتروني: خطوة نحو التmodernityة، تتيح للمواطن الاطلاع على القوائم من منزله، مما يوفر عليه عناء التنقل بشكل أولي.
المستندات المطلوبة: وهي النقطة الأكثر إثارة للتعليق:
شهادة ميلاد إلكترونية حديثة: وهو شرط يفترض تحديث البيانات، لكنه يطرح سؤالاً عن مصير أولئك الذين قد تواجههم صعوبات في استخراج هذه الشهادة "الحديثة" بسبب تعقيدات إدارية أو تقنية.
صورة من إثبات الهوية: شرط أساسي ومعتاد لتأكيد الهوية.
إيصال المنظومة – 3 نسخ: هذا الشرط هو الأكثر إثارة للحيرة. لماذا ثلاث نسخ من نفس المستند؟ في عصر التكنولوجيا حيث يمكن أرشفة البيانات رقمياً والوصول إليها بنقرة زر، يبدو طلب نسخ ورقية متعددة من مستند واحد إجراءً بيروقراطياً يعيد إنتاج مشاكل الماضي. إنه يعكس فجوة بين "المنظومة الإلكترونية" المذكورة في الإعلان وبين الواقع العملي الذي لا يزال غارقاً في الأوراق والمستندات المكررة.
القيمة المالية (240 دينار): سعر مدعوم بلا شك، يمثل محاولة لتخفيف العبء عن كاهل المواطن في ظل ظروف اقتصادية صعبة.
2. المنظومة الإلكترونية: واجهة حديثة لإجراءات تقليدية:
يشير إعلان الشركة إلى "الاعتماد على بيانات المنظومة الإلكترونية" كضمان للشفافية والدقة. وهنا يجب الوقوف طويلاً. فوجود منظومة إلكترونية هو تطور إيجابي في حد ذاته، يهدف إلى منع الازدواجية وتزوير المستندات وضمان وصول الحق إلى مستحقه. ولكن، ما قيمة هذه المنظومة إذا كانت تنتج في النهاية "قوائم" تُطبع ويُعلن عنها، ثم يُطلب من المواطن في مرحلة التسليم تقديم "ثلاث نسخ ورقية" من إيصالها؟ ألا يُفترض أن تكون بيانات المواطن متاحة للموظف المسؤول عن طريق نفس المنظومة بمجرد تقديم إثبات الهوية؟ هذا التناقض بين الوسيلة الإلكترونية المتطورة والنتيجة الورقية التقليدية يكشف عن أن عملية الرقمنة لم تكتمل بعد، وأنها لا تزال مجرد واجهة لنظام إداري لم يتخلَّ عن عاداته القديمة.
3. المواطن في قلب المعادلة: هموم تتجاوز استلام الأسطوانة:
لا يمكن فصل هذا الإعلان عن السياق الاجتماعي والاقتصادي للمواطن في طرابلس. فالحصول على أسطوانة غاز ليس رفاهية، بل هو ضرورة يومية للطهي والتدفئة في كثير من الأحيان. العملية برمّها – من متابعة الإعلان، إلى البحث عن الاسم في القوائم، إلى تجهيز حزمة المستندات المطلوبة (بما فيها استخراج شهادة ميلاد حديثة وتصوير 3 نسخ)، إلى التوجه إلى نقطة الاستلام والوقوف في طابور محتمل – كلها تمثل استنزافاً للطاقة والوقت. وقت كان يمكن أن يُستثمر في العمل، أو في الراحة، أو في رعاية الأسرة. إنها "تكلفة خفية" يتحملها المواطن، تضيف أعباءً إلى أعباء الحياة اليومية.
4. نحو آليات أكثر إنسانية وكفاءة: اقتراحات لتطوير العملية:
من أجل تحسين هذه الخدمة الحيوية وجعلها أكثر ملاءمة للمواطن، يمكن طرح بعض الاقتراحات:
الاستفادة الكاملة من المنظومة الإلكترونية: ينبغي أن تنتهي العملية عند تحميل المستندات المطلوبة (صورة الهوية وشهادة الميلاد) مرة واحدة على المنظومة، بحيث يصبح دور نقطة التسليم هو التحقق من الهوية شخصياً ومن ثم تسليم الأسطوانة دون حاجة إلى أي أوراق إضافية.
إلغاء طلب النسخ المتعددة: الاكتفاء بنسخة واحدة كحد أقصى، أو الأفضل، إلغاء شرط النسخ الورقية تماماً والاعتماد على النسخ الإلكترونية المحملة مسبقاً.
توسيع نطاق التوزيع والمرونة: دراسة إمكانية التعاون مع الجمعيات الأهلية أو إنشاء المزيد من نقاط التوزيع لتقليل الازدحام وتقريب الخدمة من المناطق السكنية.
توعية إلكترونية شاملة: نشر فيديوهات توضيحية عبر منصات التواصل الاجتماعي التابعة للشركة تشرح بالخطوات كيفية البحث في القوائم، والمستندات المطلوبة بدقة، وموقع نقاط الاستلام.
خاتمة:
إعلان شركة البريقة لتسويق النفط بصدور القوائم الثامنة لأسطوانات الغاز هو خبر يمس حاجة أساسية من احتياجات الناس. وهو، رغم ما يحمله من بشرى للمستحقين، يظل مرآة تعكس الفجوة بين التطور التقني المعلن عنه والواقع التنفيذي الذي لا يزال يعاني من إرث البيروقراطية. إن معاناة المواطن في الحصول على مستلزمات حياته اليومية ليست هينة. لذلك، فإن الانتقال من "منظومة إلكترونية" تنتج قوائم ورقية وتطلب مستندات ورقية، إلى "خدمة إلكترونية حقيقية" تختصر الوقت والجهد وتضع راحة المواطن نصب عينيها، هو ليس مجرد تطور تقني، بل هو تحول في الثقافة الإدارية والخدمية. تحول من شأنه أن يترجم عبارة "خدمة المواطن" من شعارٍ رنانٍ إلى حقيقة ملموسة، تبدأ بأسطونة غاز ولا تنتهي عندها.